تمهيد:
يتميز الشعر الحر عن
نظيره العمودي في كوته ثار على كل مقومات الشعر القديم خاصة الشكلية منها و تحرر من قيودها، يكفي
النظر إلى الاسم فهو يشي بالكثير. الشعر الحر# الشعر العمودي.
سمي الشعر القديم بالشعر العمودي لأنه يعتمد في
بنائه على الشكل العمودي بارتكازه على نظام الشطرين وليس فقط هذا البناء الشكلي ما
يميزه بل ارتكازه على قواعد و قوانين عديدة و صارمة أهمها الالتزام ببحر شعري واحد
و احترام القافية ووحدة الروي كلها ضوابط تجعل مهمة الشاعر صعبة جدا لا يمكن أن
يجتاز صعوبتها إلا من كان على دراية و اطلاع واسع بالشعر العربي القديم بل حتى
شعراء العصر الجاهلي كانوا يعتبرون أن الشاعر لا يصبح شاعرا إلا إذا حفظ ألف بيت.
أما الشعر الحديث الذي سمي أيضا بشعر الحداثة و
شعر التفعيلة و الشعر الحر وهو الاسم الذي يبدو لائقا عليه أكثر من غيره، لأن هدفه
كان التحرر من كل القواعد و الضوابط السالفة الذكر معتبرا إياها قيودا تستعبد عقل
المبدع و تكبله بقيود اللغة و ضوابط القواعد الشعرية متماهيا بذلك مع خصوصية
الفترة التي شهدت ظهوره و نشأته و التي كان فيها العالم يئن من وطأة الاستعمار و
الاستعباد و تتعالى الأصوات المطالبة بالحرية و الانعتاق و كان لابد لصوت الشاعر
أن يتعالى داعما و مستجيبا لتلك الأصوات المكممة، فغابت المقدمة الغزلية عن
القصيدة العربية كما غابت معهما ذات القبيلة و ذات الشاعر نفسه الذي ظهرت أيضا في
الشعر الرومانسي الذي سرعان ما تلاشى لتنتصر ذات الانسان المعذب و تعلو فوق كل
اعتبار.
الانسان المعذب الذي أثقل الظلم و القهر كاهله ليس
فقط ثقل ظلم و قهر المحتل الأجنبي بل و كذلك ظلم و قهر الحاكم المستبد، فاستحق هذا
الشعر لقب الشعر المقاوم أو المناضل رغم تحفظنا على هذه التقسيمات و التسميات
فالشعر شعر ولم يتغير منذ الأزل مادام أن مادته هو اللغة و اللغة تابثة لا تتغير
ما تتغير هي الأشكال و الأساليب و يبقى الجوهر شيئا واحدا، كلام بديع يدخل الأذن و
يستوطن القلب و يداعب الروح و يلامس المشاعر سواء كان الشاعر عنترة بن شداد أو قيس
بن الملوح أو الخنساء أو أبو تمام الطائي أو أحمد شوقي أو أبو القاسم الشابي أو
نازك الملائكة أو محمود درويش...
لكن التحولات التي تعصف بكل مجتمع و التطور الذي
يفرضه تقدم الإنسان في خطوة يمشيها إلى الأمام هي من تفرض الحداثة و كل قترة زمنية
مر بها الشعر هي حداثة بالنسبة لمن سبقها، الفرق أن هذه المرة هدمت الحداثة البناء
بأكمله لتعيد بناء جديدا خاصا بها و بالمرحلة.
وهدف الهدم هذه المرة إلى هدم بنية الشطرين لتحل
محلها بنية السطر الواحد الذي تتحكم في طوله الدفقة الشعورية للشاعر و ليس أي ضابط
آخر. كما تخلى الشعر الحديث عن الكلام الواضح المباشر مستعيرا عنه بالرمزية و
التجريد و يعتبر بدر شاكر السياب و محمود درويش و أمل دنقل من أكثر الشعراء الذي
أغرقوا في الرمزية و التجريد و لعل محمود درويش كان أكثرهم لكن اخترنا أمل دنقل
بالرغم من أن هناك قصيدة مشابهة في الصيغة لقصيدة
"لا تصالح" و هي قصيدة "أنا يوسف يا أبي" لكننا اخترنا قصيدة
أمل دنقل "لا تصالح" كنموذج لسببين:
أولهما هو أن محمود درويش ارتبط اسمه باسم القضية
الفلسطينية حتى أن لقب بشاعر فلسطين ونحن أشرنا سابقا إلى أن استعمال الشعر الحر
للرمزية في الدفاع عن حق الانسان عامة و الانسان العربي خاصة الذي هضمه الظلم و
الطغيان من السلطة السياسية المحلية و الدولية -وهو ما ميز شعر أحمد مطر أيضا غير
أن شعر أحمد مطر تميز بالوضوح و البساطة نائيا بنفسه عن الاغراق في الرمزية و
التجريد- و ليس فقط تسلط المحتل.
و ثانيا أن قصيدة " لا تصالح" تجمع بين
الأمرين وهذا ما سنوضحه أثناء قراءة و تحليل القصيدة.
قراءة القصيدة:
كنا قد أشرنا سابقا إلى أن قصيدة "لا
تصالح" لأمل دنقل مشابهة في الصيغة لقصيدة محمود درويش "أنا يوسف يا
أبي" ففي الظاهر يتحدث محمود درويش في قصيدته هذه عن قصة النبي يوسف المذكورة
في القرآن الكريم، بينما في الحقيقة هو يسقط معاناة يوسف مع إخوته و نكايتهم به
على و معاناة فلسطين مع أشقائها العرب و نكايتهم بها.
كذلك الأمر بالنسبة لقصيدة "لا تصالح"
فهي في ظاهرها قصة لأطول حرب في تاريخ العرب وهي حرب البسوس و التي دامت 40 سنة،
الحرب التي أشعل فتيلها قتل الجساس بن مرة المنتمي لقبيلة بني بكر لابن عمه الملك
كليب المنتمي لقبيلة ثغلب و السبب ناقة لامرأة كانت تدعى البسوس فسميت الحرب
باسمها "حرب البسوس"، وهي الحرب التي شاركت فيها القبائل العربية منهم
من تحالف مع البكريين ومنهم من تحالف مع التغلبيين و بعض القبائل فضلت الحياد و
اعتزلوا الحرب و قالوا: " هذه حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل" ومن هنا
ظهر هذا المثل الشهير "لا ناقة لي فيها ولا جمل" الدال على أن الأمر لا
يهمك و لا يعنيك.
أما عبارة "لا تصالح" فهي الرسالة التي
كتبها كليب لأخيه "الزير سالم" بدمه على الجدار الذي سقط تحته مدرجا
بدمائه بعد أن أصابه سهم انطلق من الخلف ليثقب ضلعيه و يسقطه من على صهوة جواده
ولم يكن القاتل غير ابن عمه الجساس، تحامل على نفسه حتى احتمى بجدار كتب عليه
رسالته الشهيرة "لا تصالح".
لا تصالح
ولو منحوك الذهب
أ ترى حين أفقأ عينيك
ثم أتبت جوهرتين مكانهما
هل ترى؟
هي أشياء لا تشترى
- العين
ثمينة و لا يمكن تعويضها ولو بكنوز و جواهر العالم، فلا شيء يعوض نعمة البصر و
الرؤية. في الأبيات الآتية يوضح أمل دنقل بمن شبه العين التي لا تعوض و لا تشترى
ذكريات الطفولة بين أخيك و بينك
حسكما فجأة بالرجولة
هذا الحياء الذي يكبت الشوق حين تعانقه
الصمت مبتسمين
لتأنيب أمكما و كأنكما ما تزالان طفلين
تلك الطمأنينة بينكما
أن سيفان سيفك
صوتان صوتك
أنك إن مت
للبيت رب
و للطفل أب
- هو الأخ إذا، التي تجمع بينك و بينه ذكريات
الطفولة و شقاوتها، الاشتراك في الأحاسيس و الرؤى، الاحساس بالدعم و السند و القوة
الذين تستمدهم من وجود الأخ إلى جانبك، الشخص الوحيد الذي يمكن أن يحل محلك إذ ما
تواريت عن الأنظار، لأجل كل ذلك هو بمثابة العين التي ترى بها.
هل يصير دمي بين عينيك ماء؟
أتنسى ردائي الملطخ بالدماء
تلبس فوق دمائي ثيابا مطرزة بالقصب؟
إنها الحرب
قد تثقل القلب
لكن خلفك عار العرب
لا تصالح
ولا تتوخى الهرب
هنا يقطع أمل دنقل أي طريق لمخاطبه للتراجع من
خلال توجيه أسئلة إستنكارية، تستنكر أن ينسى الأخ دم أخيه، أن يصالح من قتلوه. إنه
يعترف أن الحرب تثقل القلب لما تحمله من موت و دمار غير أن تخليه عن الحرب يعني
تحمل وصمة العار إلى الأبد.
لا تصالح
على الدم حتى بدم
لا تصالح
و لو قيل رأس برأس
أ كل الرؤوس سواء؟
أ قلب الغريب كقلب أخيك؟
أ عيناه عينا أخيك؟
و هل تتساوى يد سيفها كان لك
بيد سيفها أثكلك؟
سيقولون: جئناك كي تحقن الدم
جئناك كن – يا أمير- الحكم
سيقولون: ها نحن أبناء عم
قل لهم أنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك
و اغرس السيف في جبهة الصحراء
إلى أن
يجيب العدم
أني كنت لك
فارسا
و أخا
و أبا
و ملك.
- هو رفض قاطع للصلح لا رجعة فيه مهما كانت
المغريات ومهما صحبه من كلام منمق عن حقن
الدماء واستحضار آصرة القرابة، فالقاتل ليس كفؤا للقتيل حتى يتساوى رأس برأس،
فالمقتول فارس و أخ و أب وملك، و القاتل ليس غير غادر استباح دم ابن العم متجاهلا
رابطة الدم هذه و آصرة القرابة.
لا تصالح
ولو حرمتك الرقاد
صرخات الندامة
و تذكر..
( إذا لان قلبك للنسوة اللابسات السواد
و لأطفالهن الذين تخاصمهم الابتسامة)
أن بنت أخيك "اليمامة"
زهرة تتسربل – في سنوات الصبا- بثياب الحداد
كنت إن عدت
تعدو على درج القصر
تمسك ساقي عند نزولي..
فأرفعها – وهي ضاحكة- فوق ظهر الجواد
ها هي الآن صامتة
حرمتها يد الغدر
من كلمات أبيها
ارتداء الثياب الجديدة
من أن يكون لها –ذات يوم- أخ
من أب يتبسم في
عرسها
وتعود إليه إذا الزوج
أغضبها
و إذا زارها يتسابق
أحفاده نحو أحضانه
لينالوا الهدايا
و يلهوا بلحيته وهو مستسلم
و يشد العمامة
لا تصالح
فما ذنب تلك اليمامة
لترى العش محترقا
فجأة
وهي تجلس فوق الرماد؟
- يعود دنقل مجددا وهو يتحدث على لسان
"كليب" الملك المغدور ليقطع الطريق مرة أخرى على أي شعور بالندم أو
الأسى على الأيتام و الثكلى ليذكره بابنة أخيه "اليمامة" التي تركتها يد
الغدر هي الأخرى بلا أب و ألبستها ثوب الحداد وهي في سنوات الصبا ما تزال زهرة
تتفتح للحياة، ذبلت في ثياب الحداد و نسيت في رحلة سعيها وراء ثأر أبيها أنها
فتاة،
فاليمامة
مثلها مثل عمها الزير رفضت الصلح، و حين كانت تسأل عما يرضيها كي تحقن الدم و
تتخلى عن ثأر أبيها كانت ترد: "أريد أبي حيا".
لا تصالح
ولو توجوك بتاج الإمارة
كيف تخطو على جثة ابن أبيك؟
و كيف تصير المليك
على أوجه البهجة المستعارة؟
كيف تنظر في كف من صافحوك
فلا تبصر الدم في كل كف؟
إن سهما أتاني من الخلف
سوف يجيئك من ألف خلف
فالدم الآن صار وساما وشارة
لا تصالح
ولو توجوك بتاج الإمارة
إن عرشك سيف
و سيفك زيف
إذا لم تزن –بذؤابته- لحظات الشرف
و استطبت حياة الترف.
- هنا دنقل ما يزال يدافع عن خياره برفض الصلح،
مهما كانت المغريات حتى وإن كانت هذه المرة تاج الإمارة، فكل شيء سيكون زيفا و
نفاقا، إنه يحذر من أن السيف الذي أصابه سيصيب الأخ أيضا، فمن غدر مرة سيغدر كل
مرة، ثم ما العرش إن لم يكن عزة و كرامة و شرف، و دونهم وهم و زيف.
لا تصالح
ولو قال من مال عند الصدام
ما بنا طاقة لامتشاق الحسام
عندما يملأ الحق قلبك
تندلع النار إن تتنفس
و لسان الخيانة يخرس
لا تصالح
ولو قيل ما قيل من كلمات السلام
كيف تستنشق الرئتان
نسيم السلام المدنس
كيف تنظر في عيني امرأة
أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها؟
كيف تصبح فارسها في الغرام؟
كيف ترجو غدا لوليد ينام؟
كيف تحلم أو تتغنى
بمستقبل لغلام
وهو يكبر –بين يديك- بقلب منكس؟
لا تصالح
ولا تقتسم مع من قتلوك الطعام
وارو قلبك بالدم
وارو التراب المقدس
وارو أسلافك الراقدين
إلى أن ترد عليك العظام.
- هنا يدعوه إلى التمسك بعدم الصلح حتى لو اصطدم
بالمتخاذلين الذين لا رغبة و لا قدرة لهم على القتال دفاعا عن إخوتهم ، عن
عروبتهم، وعن كرامتهم. أوصاه أيضا بعدم الاكتراث لكلمات السلام، فسلام الضعيف جبن،
و سلام المقهور استسلام، السلام لا يكون سلاما إلا إذا ضمن المقاتل حقه في العيش
الكريم، ضمن حريته و أمن و أمان عائلته و أحبائه، السلام لا يكون سلاما إلا إذا
أخفض المحارب سلاحه وهو يملك قوت يومه و قرار نفسه وقد انتصر لدماء من قتل غدرا و
ما دون ذلك سلام مدنس.
لا تصالح
ولو ناشدتك القبيلة
باسم حزن "الجليلة"
أن تسوق الدهاء
و تبدي –لمن قصدوك- القبول
سيقولون: ها أنت تطلب ثأرا يطول
فخذ الآن ما تستطيع
قليلا من الحق
في هذه السنوات القليلة
إنه ليس ثأرك وحدك
لكنه ثأر جيل فجيل
وغذا..
سوف يولد من يلبس
الدرع كاملة
يوقد النار شاملة
يطلب الثأر
يستولد الحق
من أضلع المستحيل
لا تصالح
ولو قيل إن التصالح حيلة
إنه الثأر
تبهت شعلته في الضلوع..
إذ ما توالت عليها الفصول..
ثم تبقى يد العار مرسومة
(بأصابعها الخمس)
فوق الجباه الذليلة
- يستمر أمل دنقل في فضح كل محاولات المتخاذلين
لثني الأخ عن الأخذ بثأر أخيه، سيدعونه للقبول بالانتصار الجزئي سيحاولون إقناعه
بأن الثأر أمده طويل و يطمئنه أن الأجيال القادمة لن تنسى ثأرها، سيحاولون إقناعه
أن هذا الصلح مجرد حيلة، مجرد خدعة من خدع الحرب لكنه يذكره أن الثأر مجرد شعلة إن
مر عليها الوقت ستبهت و تنطفئ ولن يبقى له غير وصمة العار موصومة على جباهه كما
وصمت على جباه هؤلاء المتخاذلين الذليلة.
لا تصالح
ولو حذرتك النجوم
ورمى لك كهانها بالنبأ..
كنت أغفر لو أني مت..
ما بين خيط الصواب
و خيط الخطأ.
لم أكن غازيا
لم أكن أتسلل قرب مضاربهم
لم أمد يدا لثمار الكروم
أرض بستانهم لم أطأ
لم يصح قاتلي بي "انتبه"
كان يمشي معي
ثم صافحني
ثم سار قليلا
و لكنه في الغصون اختبأ
فجأة
ثقبتني قشعريرة بين ضلعين
و اهتز قلبي –كفقاعة- وانفثأ
وتحاملت، حتى احتملت على ساعدي
فرأيت ابن عمي الزنيم
واقفا يتشفى بوجه لئيم
لم يكن في يدي حربة
أو سلاح قديم
لم يكن غير غيظي الذي
يتشكى الظمأ
- هذا الأسلوب تبريري بامتياز فهو يبرر موقفه
الصارم اتجاه الصلح، كان يمكن أن يغفر لو أنه قتل خطئا أو اشتباها لكنه لم يعتدي
على أحد، لم يدس على أرض أحد، حتى قاتله لم يواجهه، ولم ينذره، بل طعنه من الخلف
غدرا و دون إنذار وهو أعزل من كل سلاح غير سلاح الغيظ.
لا تصالح
إلى أن يعود الوجود لدورته الدائرة
النجوم.. لميقاتها
و الطيور لأصواتها
و الرمال لذراتها
و القتيل لطفلته الناظرة
كل شيء تحطم في لحظة عابرة
الصبا – بهجة الأهل
صوت
الحصان - التعرف بالضيف
همهمة القلب حين يرى برعما في الحديقة يذوي
الصلاة لكي ينزل المطر الموسمي
مراوغة القلب حين يرى الموت وهو يرفرف فوق
المبارزة الكاسرة
كل شيء تحطم في نزوة فاجرة
و الذي اغتالني ليس ربا.. ليقتلني بمشيئته
ليس أنبل مني.. ليقتلني بسكينته
ليس أمهر مني.. ليقتلني باستدارته الماكرة
فما الصلح إلا معاهدة بين ندين
في شرف القلب لا تنتقص
و الذي اغتالني محض لص
سرق الأرض من بين عيني
والصمت يطلق ضحكته الساخرة
- القلب المكسور، المحروق على الأحبة الذين لن
تبصرهم العين مجددا، لا يمكن أن يداوي هذا الجرح إلى الثأر ممن داس على جثث الأحبة
دون شفقة أو رحمة و كأن مدار الكون قد تحول ولن يعود إلى مداره الطبيعي إلا
بالثأر، فالذي نفذ الاغتيال ليس ربا حتى يقرر سلبه حق الحياة، ليس أنبل ولا أمهر
من المقتول، بل مجرد لص يسعى إلى سرقة الأرض عنوة و معاهدة الصلح لا تكون إلا ندا
لند على أساس الشرف، من يقتل غدرا ليسرق جهارا لا يمكن أن يكون له شرف.
لا تصالح
ولو وقفت ضد سيفك كل الشيوخ
و الرجال التي ملأتها الشروخ
هؤلاء الذين تدلت عمائهم فوق أعينهم
و سيوفهم العربية قد نسيت سنوات الشموخ
لا تصالح
فليس سوى أن تريد
أنت فارس هذا الزمان الوحيد
وسواك المسوخ
لا تصالح
لا تصالح
لا تصالح.
- إن الذي يبدي استعداده لأن يمد يده بسلام لم
يأخذ فيه المظلوم حقه، ولم يستعد فيه القتيل شرفه، ليسوا سوى هؤلاء الذين تخلوا عن
القيم العربية التي لطالما تميزوا بها من عزة و شرف و كرامة و عزم و شموخ، و حتى و
إن تخلى عنك كل هؤلاء "لا تصالح"
- تكرار كلمة لا تصالح ثلاث مرة في آخر القصيدة
دليل على تأكيد تمسك الشاعر بهذا الخيار ورفضه القاطع لأي نوع من أنواع الصلح
المهين مع العدو.
تحليل القصيدة:
الرمزية في قصيدة لا تصالح.
السؤال هنا لماذا اختار أمل دنقل هذه القصة
التاريخية المؤلمة، ليضمنها في قصيدته؟ كيف وظف الشاعر رموز هذه القصة؟ و الأهم من
ذا الذي يوصيه الشاعر بعدم المصالحة؟ و لمن يقول لا تصالح؟
إذا ما أردنا اختصار هذه القصة التاريخية الطويلة
و المثقلة بالآلام و الأحزان بما أنها أطول حرب بين أبناء العمومة العرب و طبعا
كما هي كل حرب أتت على الأخضر و اليابس. فإننا سنقول أنها قصة رجل مغدور قتله ابن
عمه غدرا و بدون سبب وجيه فوجه الرسالة لمن يحمل على عاتقه دمه و أوصاه "لا
تصالح".
جواب هذه الأسئلة و غيرها نجده و يزول الغموض كليا
إذ ما عدنا إلى الظروف الذي قالت فيها هذه القصيدة بعد هزيمة 67 التي يتذكرها
المصريون و العرب أجمعون، كيف لا وقد لمع في العيون حلم الانتصار على العدو
الصهيوني و استعادة التراب الفلسطيني المغتصب فإذا بالحلم يتحطم على صخرة الهزيمة
النكراء تليها اتفاقية تركت في قلب كل عربي غصة لاتزول و في مقدمتهم الشاعر المصري
أمل دنقل حيث أطلق رائعته "لا تصالح" رفضا للاتفاقية التي أسموها زورا و
بهتانا اتفاقية السلام، بينما هي في الحقيقة اتفاقية استسلام مهين. فأي حكاية قد
توصل الفكرة غير حكاية الرجل الذي كتب بدمه "لا تصالح". تلك الكلمة التي
كتبها آلاف المصريين و ملايين الفلسطنيين و العرب بدمهم على كل الطرقات، الدم
العربي يصرخ في كل شارع " لا تصالح" و إن كان الزير سالم (المهلهل) الذي
عاش طيلة حياته معتزلا حياة القتال و الحروب و السياسية إلى الشعر و النساء لذلك
لقب بالزير- أي زير نساء- قد لبى نداء أخيه و أبى إلا أن يعتزل حياة اللهو و المرح
سعيا وراء دم أخيه الذي صرخ طلبا لنجدته ولو كلفه ذلك حياته كلها.
بينما رأينا من جاء من خلفية عسكرية قضى حياته في
حمل السلاح و خوض الحروب حتى قام مع رفاقه بما أسموه "ثورة الضباط
الأحرار"، يتخلى عن سلاح وينزع بدلته العسكرية ليصافح يدا ملوثة ليس بدم إخ
بل بدم إخوة، عدد لا متناهي ممن طعنوا غدرا كما طعن كليب الفارس و الأب و الأخ و
الملك.
غير أنه كان لكليب أخ ما يزال يحمل في جيناته كل
معاني العزة و الكرامة و الشموخ.
" كيف تنظر في يد من صافحوك فلا تبصر الدم في
كل كف؟" كيف مدوا يدهم كيف صافحوا ولم يبصروا ذاك الدم؟ كيف خطوا بتباث على
جتث ابن أبيهم؟ كيف استنشقوا نسيم السلام المدنس؟ كيف اقتسموا مع من قتلوهم
الطعام؟
كيف تجرؤوا على الصلح؟ "فما الصلح إلا معاهدة
بين ندين في شرف القلب لا تنتقص والذي اغتالني محض لص " فكيف صالحوا اللصوص؟
إن رمزية القصة في القصيدة هي رمزية الدم العربي،
الشرف العربي الذي لم يتهاون العرب فيهم يوما.
صحيح أن القصيدة كتبت في هذه الظروف معلنة موقف
الشاعر و كل العرب من معاهدة السلام، لكن القصيدة لا تقف عند هذا الظرف، فرمزية
القصيدة جعلتها صالحة لكل ظرف يخون فيه الأخ أخاه، وسامح في دمه و يصافح قتلته بدم
بارد، فبعد النظام المصري توالت الأيد الممدودة للعدو الصهيوني من باقي الأنظمة
العربية، ليصير الدم في أعينهم ماء، ليلبسوا فوق الرداء الملطخ بالدماء ثيابا
مطرزة بالقصب، "لتبقى يد العار مرسومة بأصابعها الخمس فوق الجباه الذليلة".
كما تغنت
الشعوب العربية بقصيدة أبو القاسم الشابي " إذا الشعب يوما أراد الحياة/ فلا
بد أن يستجيب القدر" وهم يحطمون أغلال الاستبداد و يسعون إلى الحياة. ما يزال
كل دم مسفوك غدرا في أرصفة الشوارع و الطرقات يتغنى بقصيدة أمل دنقل وهو يصرخ
برفاقه "لا تصالح".
مشكورين
ردحذفيعني ما هو الرمز بإختصار
ردحذف